ماذا فعل العثمانيون لإنقاذ الأندلس؟
يتردد هذا السؤال كثيرا، يتردد كلما اقتربت ذكرى سقوط غرناطة وضياع
الأندلس، يتردد كلما ذُكر الموريسكيون ومحنتهم وترحيلهم، يتردد حتى إذا تم التعرض لتاريخ العثمانيين وأمجادهم. يردده البعض مستنكرين لائمين ولسان حالهم يقول "لم يفعل العثمانيون شيئا"، ويردده البعض الآخر رافعين رؤوسهم إلى عنان السماء فخورين بما قام به العثمانيون على كافة الأصعدة .. على الصعيد السياسي عن طريق الرسائل المتبادلة مع باقي حكام العالم طالبين التيسير على المهاجرين المسلمين، على الصعيد الاجتماعي بدمج هؤلاء المهاجرين واستيعابهم في اسطنبول وباقي المدن التابعة للدولة العثمانية، وعلى الصعيد العسكري بتوفير الدعم غير المباشر عن طريق معارك بربروس في البحر المتوسط والتي أنهكت الأسبان، أو الدعم المباشر من حكام الجزائر ومنهم قلج علي بك عن طريق المشاركة في ثورة البشرات وإمداد الموريسكيين بالجنود والأسلحة ..
وبرغم منطقية السؤال وكثرة تردده على ألسنة المؤرخين وقارئي التاريخ ودارسيه بل حتى على ألسنة من لا يقرأ التاريخ، إلا أن هناك تساؤل يبدو أكثر منطقية إذا ما نحينا التحيزات المسبقة وابتعدنا عن قراءة التاريخ بأعين سياسية وركزنا جل اهتمامنا على تفحص تاريخ العالم بصفة عامة والمنطقة العربية بصفة خاصة بعين تريد رؤية الحقيقة وعقل متفتح
جاهز لتقبل هذه الحقيقة أيا كانت .. يبقى التساؤل الأهم هو كيف للعثمانيين أن ينقذوا الأندلس؟
لو بدأنا بدراسة ملابسات فتح الأندلس لوضعنا أيدينا على بداية الخيط ، فجغرافيا الأندلس جعلتها خارج نطاف تفكير المسلمين لفترة طويلة وظل شمال افريقيا هو منتهى آمالهم بل حتى أن شمال افريقيا نفسه كان هدفا عسيرا بسبب سياسة الحكام الأمويين الأوائل، ولم يستطع المسلمون الوصول للأندلس إلا بعد تولي موسى بن نصير ولاية افريقيا
وتغيير هذه السياسات والتأني في فتوحاته والاستعانة بالبربر الأمازيغ في
هذه الفتوحات. لكن - وحتى بعد كل هذا - ظل موسى بن نصير حريصا في تقدمه للأندلس محذرا طارق بن زياد من التسرع ومؤنبا اياه أحيانا، مدفوعا بخوفه على جيوش المسلمين من عبور المتوسط والتيه في الجبال والوقوع في حصار بين بحر وعدو صليبي من الجهة الأخرى. هذه الجغرافيا جعلت الأندلس وحكامها محاصرين دوما ومهددين من الشمال بممالك نصرانية. كذلك كون الأندلس هي أول مملكة إسلامية تقام في أوروبا فقد جعلها هذا مصدر تهديد دائم للكاثوليكية والكنيسة في روما وجعل من البابا خصم وعدو للإسلام والمسلمين فكان دوما هو المحرك لأي حملة صليبية أو حرب ضد الأندلس على مدى ثمانية قرون كاملة ..
لو تركنا جغرافيا الأندلس وتأملنا تاريخها لوجدنا أنفسنا أمام ظاهرة
متكررة مفادها أن الأندلس كانت على وشك السقوط عدة مرات لم تنج فيها إلا بمساعدة جيرانها المغاربة، حدث هذا في الزلاقة ثم لم يلبث أن جاء المرابطون ليعطوا الأندلس قبلة الحياة، تبعهم الموحدون (الأرك) وبنو مرين (الدونونية)، ولذا فقد كانت فرصة الأندلس الحقيقة في النجدة هي الوطاسيين ومن بعدهم السعديين، ولما كان كلاهما يتميز بالضعف وحب السلطة فقد صار عصيا على أي قوة إسلامية أخرى أن تتدخل وهي لا تملك قواعد بحرية قريبة من الأندلس تستخدمها لانطلاق حملاتها، خاصة إذا ما كان حكام المغرب في هذا الحين يرون في أنفسهم ندا لأي قوة إسلامية أخرى خاصة العثمانيين.
ومن تاريخ الأندلس إلى تاريخ المنطقة كلها، وبقليل من القراءة في المعارك
والجولات السابقة بين المسلمين والصليبيين نرى بجلاء كيف فشلت معظم الحملات الصليبية على الشرق وكيف كان من الصعب على جيوش أوروبا أن تحارب في أرض تبعد عنها آلاف الكيلومترات وفي منطقة محاطة بأعدائهم من كل اتجاه. حتى أن الحملة الصليبية الوحيدة الناجحة (الحملة الأولى) لم تستطع الحفاظ على مكتسباتها كثيرا، وكيف لها ذلك والصليبيون يعيشون محاصرين بالمدن المسلمة من كل اتجاه!!
فتح القسطنطينية يبدو أيضا مثال جيد يؤيد نفس النظرية، فهاهم المسلمون يحاولون المرة تلو الأخرى منذ عهد ذو النورين رضي الله عنه
عام 35 هـ وحتى المحاولة الخامسة في عهد الخليفة العباسي المهدي عام 165 هـ، إلا أن كل هذه المحاولات باءت بالفشل ولم ينجح محمد الفاتح في ذلك إلا بعدما صار جارا لها، يستطيع بسهولة تأمينها بعد الفتح.
أما المثال الثالث والأخير فهو تونس والتي فقدها العثمانيون بعد أن فتحوها لنفس الأسباب السالف ذكرها.
من منظور آخر، تحمل فكرة الاستعانة بقوى خارجية لدعم ثورة فرصا أقل للنجاح مقارنة باستعانة حاكم وجيش بلد ما بحليف يدعمها ضد عدو خارجي، فعندما قامت ثورة البشرات كانت مقاليد الأمور كلها بيد القشتاليين بينما كان المسلمون مجرد مواطنين ثائرين يفتقدون أحيانا إلى التنظيم وأحيانا أخرى إلى الدعم المادي والمعنوي مما يقيد حركة الثوار ويضعفها ويجعلها تفتقد إلى المرونة، وهو ما يجعل من انتصار هذه الثورة بسواعد جنود غرباء ضربا من الخيال، بينما لو قارنا ذلك بمواقف أخرى تم الاستعانة فيها بقوى خارجية كموقف المعتمد ابن عباد لوجدنا بن عباد حينها حاكما وأميرا يملك أسلحة وجيشا ويدعمه شعبا كاملا دون خوف من إظهار هذا الدعم أو الحاجة إلى التخفي.
لو أضفنا لهذه الأسباب حقيقة أن الامبراطورية الأسبانية كانت في أوج مجدها وهو ما يتجاهله غالبية اللائمون مشددين فقط على قوة الدولة العثمانية ومتغاضين عن موقف القوى المسيحية الأخرى من إسبانيا (روما - البندقية - البرتغال) في مقابل موقف القوى الإسلامية من العثمانيين (المماليك - الحفصيين/السعديين - الصفويين)، فإن الصورة تصبح أكثر وضوحا ويصبح من الصعب إلقاء اللوم على العثمانيين لعدم قدرتهم إنقاذ الأندلس بل يصبح من العسير التفكير في العثمانيين كمنقذ بينما يتفرغ المماليك لدعم الصفويين ضد الدولة العثمانية أو على الأقل عدم اتخاذ موقف حاسم ضدهم، بل يصبح من الغبن أن ينتقد البعض العثمانيين ويخلع عنهم لقب الخلافة بينما يتجاهل تماما وجود خلافة عباسية (عربية كما يحلو للبعض) دورها الرئيسي هو حماية الإسلام والمسلمين في شتى بقاع الأرض.
لقد بذل العثمانيون جهودا لم يبذلها أقرانهم في مواقف مشابهة من قبل، فلم نر المماليك يقفون في وجه المد الشيعي بعد قيام الدولة الصفوية على يد اسماعيل الأول (1500)، ولا الموحدون الذين حكموا نصف افريقيا بل والأندلس نفسها هبوا لنجدة بغداد حين افترسها التتار وقضوا على الخلافة العباسية بل وعاش المسلمون دون خليفة ثلاث سنوات كاملة، لم نر الفاطميين يساندون صلاح الدين من أجل تحرير القدس، بل لم يبذل العثمانيون أنفسهم جهودا مماثلة حين سقطت دولة المغول الإسلامية في الهند .. ولولا ما بذله العثمانيون من جهود من أجل الإسلام لربما صارت تونس والجزائر ومصر ولايات أسبانية .. لولا ما بذله بنو عثمان لربما قُضي على أكثر من نصف مليون موريسكي ولما وصلوا إلى بلاد المغرب ، لولا سلاطين الدولة العلية لربما انتهت الخلافة العباسية في نفس العام (1517) لكن على يد البرتغاليين ولربما تمددت الدولة الصفوية لتبتلع العراق والشام وإرث السلاجقة ، لولاهم لما بُنيت المساجد في سراييفو ولا وصل الإسلام إلى بلجراد وشبه جزيرة القرم ...
لقد سقطت الأندلس لأن سنن الله في كونه نافذة ولأن الله لا يحابي أحدا، وقد كان مقدرا لها أن تسقط قبل هذا التاريخ بعدة قرون لكنها رحمة الله وعزيمة رجال سخرهم الله لرفعة الإسلام .. سقطت حين اختلف حكامها وتركوا دينهم يريدون زينة الحياة الدنيا بينما توحد أعداؤهم .. سقطت يوم أن فقدت القدرة على الاستمرار .. ماتت يوم أن فقدت الرغبة في الحياة ..
لقد سقطت الأندلس ولم يكن باستطاعة العثمانيين أو غيرهم أن يستأخرون أجلها ساعة ، فليصغ المؤرخون مسارات بديلة ويضعوا السيناريوهات المحتملة كلها .. سيدعمهم بايزيد ويترك سليم الأول حملة الشرق ويتوجه إلى المغرب لمناصرة أهل الاندلس .. سيتخلى سليمان القانوني عن حملات بلجراد ويستبدل ألمرية بموهاج .. سيكف سليم الثاني عن الزحف لقبرص ويوجه كل جيوشه إلى قلج علي باشا ثم ... يقضي الله أمرا كان مفعولا وتسقط الأندلس ..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق