السبت، 26 سبتمبر 2015

أبو مقدامة الشامي .. والغلام

يوم كانت أرواحنا فداء لله .. إقرأوا دون بكاء  

أورد ابنُ الجوزي في صفة الصفوة وابنُ النحاس في مشارع الأشواق عن رجل من الصالحين اسمه أبو قدامة الشامي ..

وكان رجلاً قد حبب إليه الجهاد والغزو في سبيل الله ، فلا يسمع بغزوة في سبيل الله ولا بقتال بين المسلمين والكفار إلا وسارع وقاتل مع المسلمين فيه ، فجلس مرة في الحرم المدني فسأله سائل فقال : يا أبا قدامة أنت رجل قد حبب إليك الجهاد والغزو في سبيل الله فحدثنا بأعجب ما رأيت من أمر الجهاد والغزو

فقال أبو قدامة : إني محدثكم عن ذلك :

القصه :
خرجت مرة مع أصحاب لي لقتال الصليبيين على بعض الثغور ( والثغور هي مراكز عسكرية تجعل على حدود البلاد الإسلامية لصد الكفار عنها ) فمررت في طريقي بمدينة الرقة ( مدينةٍ في العراق على نهر الفرات ) واشتريت منها جملاً أحمل عليه سلاحي، ووعظت الناس في مساجدها وحثثتهم على الجهاد والإنفاق في سبيل الله، فلما جن علي الليل اكتريت منزلاً أبيت فيه ، فلما ذهب بعض الليل فإذا بالباب يطرق عليّ ، فلما فتحت الباب فإذا بامرأة متحصنة قد تلفعت بجلبابها

فقلت : ما تريدين ؟

قالت : أنت أبو قدامة ؟

قلت : نعم

قالت : أنت الذي جمعت المال اليوم للثغور ؟

قلت : نعم ، فدفعت إلي رقعة وخرقة مشدودة وانصرفت باكية، فنظرت إلى الرقعة فإذا فيها: إنك دعوتنا إلى الجهاد ولا قدرة لي على ذلك فقطعت أحسن ما فيَّ وهما ضفيرتاي وأنفذتهما إليك لتجعلهما قيد فرسك لعل الله يرى شعري قيد فرسك في سبيله فيغفر لي.

قال أبو قدامة : فعجبت والله من حرصها وبذلها ، وشدة شوقها إلى المغفرة والجنة. فلما أصبحنا خرجت أنا وأصحابي من الرقة ، فلما بلغنا حصن مسلمة بن عبد الملك فإذا بفارس يصيح وراءنا وينادي يقول : يا أبا قدامة يا أبا قدامة ، قف عليَّ يرحمك الله ، قال أبو قدامة : فقلت لأصحابي : تقدموا عني وأنا أنظر خبر هذا الفارس ، فلما رجعت إليه ، بدأني بالكلام وقال : الحمد لله الذي لم يحرمني صحبتك ولم يردني خائباً.

فقلت له ما تريد : قال أريد الخروج معكم للقتال .

فقلت له : أسفر عن وجهك أنظر إليك فإن كنت كبيراً يلزمك القتال قبلتك ، وإن كنت صغيراً لا يلزمك الجهاد رددتك.

فقال : فكشف اللثام عن وجهه فإذا بوجه مثل القمر وإذا هو غلام عمره سبع عشرة سنة.

فقلت له : يا بني ؟ عندك والد ؟

قال : أبي قد قتله الصليبيون وأنا خارج أقاتل الذين قتلوا أبي.

قلت : أعندك والدة ؟

قال : نعم

قلت : ارجع إلى أمك فأحسن صحبتها فإن الجنة تحت قدمها

فقال : أما تعرف أمي ؟

قلت : لا

قال : أمي هي صاحبة الوديعة

قلت : أي وديعة ؟

قال : هي صاحبة الشكال

قلت : أي شكال ؟

قال : سبحان الله ما أسرع ما نسيت !! أما تذكر المرأة التي أتتك البارحة وأعطتك الكيس والشكال ؟؟

قلت : بلى

قال : هي أمي ، أمرتني أن أخرج إلى الجهاد ، وأقسمت عليَّ أن لا أرجع وإنها قالت لي : يا بني إذا لقيت الكفار فلا تولهم الدبر ، وهَب نفسك لله واطلب مجاورة الله، ومساكنة أبيك وأخوالك في الجنة ، فإذا رزقك
الله الشهادة فاشفع فيَّ.. ثم ضمتني إلى صدرها ، ورفعت بصرها إلى السماء ، وقالت : إلهي وسيدي ومولاي، هذا ولدي ، وريحانةُ قلبي، وثمرةُ فؤادي ، سلمته إليك فقربه من أبيه وأخواله..

ثم قال: سألتك بالله ألا تحرمني الغزو معك في سبيل الله ، أنا إن شاء الله الشهيد ابن الشهيد ، فإني حافظ لكتاب الله ، عارف بالفروسية والرمي ، فلا تحقرَنِّي لصغر سني..

قال أبو قدامة : فلما سمعت ذلك منه أخذته معنا ، فوالله ما رأينا أنشط منه، إن ركبنا فهو أسرعنا ، وإن نزلنا فهو أنشطنا ، وهو في كل أحواله لا يفتر لسانه عن ذكر الله تعالى أبداً.

فنزلنا منزلاً..وكنا صائمين وأردنا أن نصنع فطورنا..فأقسم الغلام أن لا يصنع الفطور إلا هو..فأبينا وأبى..فذهب يصنع الفطور..وأبطأ علينا..فإذا أحد أصحابي يقول لي يا أبا قدامة اذهب وانظر ما أمر صاحبك..فلما ذهبت فإذا الغلام قد أشعل النار بالحطب ووضع من فوقها القدر..ثم غلبه التعب والنوم ووضع رأسه على حجر ثم نام..

فكرهت أن أوقظه من منامه..وكرهت أن أرجع الى أصحابي خالي اليدين..فقمت بصنع الفطور بنفسي وكان الغلام على مرأى مني..فبينما هو نائم لاحظته بدأ يتبسم .. ثم اشتد تبسمه فتعجبت ثم بدأ يضحك ثم اشتد ضحكة ثم استيقظ.. فلما رآني فزع الغلام وقال: ياعمي أبطأت عليكم دعني أصنع الطعام عنك..أنا خادمكم في الجهاد.

فقال أبو قدامة: لا والله لست بصانع لنا شيء حتى تخبرني ما رأيت في منامك وجعلك تضحك وتتبسم .

فقال: يا عمي هذه رؤيا رأيتها..

فقلت: أقسمت عليك أن تخبرني بها .

فقال: دعها.. بيني وبين الله تعالى

فقلت: أقسمت عليك أن تخبرني بها

قال: رأيت ياعمي في منامي أني دخلت إلى الجنة فهي بحسنها وجمالها كما أخبر الله في كتابه..فبينما أنا أمشي فيها وأنا بعجب شديد من حسنها وجمالها..إذ رأيت قصراً يتلألأ أنواراً , لبنة من ذهب ولبنة من فضة ، وإذا شُرفاته من الدرّ والياقوت والجوهر ، وأبوابه من ذهب ، وإذا ستور مرخية على شرفاته ، وإذا بجواري يرفعن الستور ، وجوههن كالأقمار ..فلما رأيت حسنهن أخذت أنظر إليهن وأتعجب من حسنهن فإذا بجارية كأحسن ما أنت رائي من الجواري وإذ بها تشير إلي وتحدث صاحبتها وتقول هذا زوج المرضية هذا زوج المرضية..فقلت لها أنتي المرضية؟؟؟

فقالت: أنا خادمة من خدم المرضية..تريد المرضية؟؟ ادخل إلى القصر..تقدم يرحمك الله فإذا في أعلى القصر غرفة من الذهب الأحمر عليها سرير من الزبرجد الأخضر ، قوائمه من الفضة البيضاء ، عليه جارية وجهها كأنه الشمس، لولا أن الله ثبت علي بصري لذهب وذهب عقلي من حسن الغرفة وبهاء الجارية ..

فلما رأتني الجارية قالت : مرحباً بولي الله وحبيبه .. أنا لك وأنت لي .. فلما سمعت كلامها اقتربت منها وكدت ان أضع يدي عليها قالت : يا خليلي يا حبيبي أبعد الله عنك الخناء قد بقي لك في الحياة شيء وموعدنا معك غدًا بعد صلاة الظهر.. فتبسمت من ذلك وفرحت منه يا عم.

فقلت له: رأيت خيرًا إن شاء الله.

ثم إننا أكلنا فطورنا ومضينا الى أصحابنا المرابطين في الثغور ثم حضر عدونا..وصف الجيوش قائدنا..
وبينما أنا أتأمل في الناس..فإذ كل منهم يجمع حوله أقاربه وإخوانه..إلا الغلام..فبحثت عنه ووجدته في مقدمة الصفوف..فذهبت إليه وقلت: يا بني هل أنت خبير بأمور الجهاد؟؟ قال لا يا عم هذه والله أول معركة لي مع الكفار.

فقلت يا بني إن الأمر خلاف على ما في بالك ، إن الأمر قتال ودماء..فيا بني كن في آخر الجيش فان انتصرنا فأنت معنا من المنتصرين وإن هُزمنا لم تكن أول القتلى..

فقال متعجبا: أنت تقول لي ذلك؟؟

قلت: نعم أنا أقول ذلك .

قال: يا عم أتود أن أكون من أهل النار؟

قلت أعوذ بالله.. لا والله .. والله ما جئنا إلى الجهاد إلا خوفًا منها..

فقال الغلام: فان الله تعالى يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الأدبار  وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ)
هل تريدني أوليهم الأدبار فأكون من أهل النار؟

فعجبت والله من حرصه وتمسكه بالآيات فقلت له يا بني إن الآية مخرجها على غير كلامك..فأبى يرجع فأخذت بيده أُرجعه إلى آخر الصفوف وأخذ يسحب يده عني فبدأت الحرب وحالت بيني وبينه..

فجالت الأبطال ، ورُميت النبال ، وجُرِّدت السيوف ، وتكسرت الجماجم ، وتطايرت الأيدي والأرجل .. واشتد علينا القتال حتى اشتغل كلٌ بنفسه ، وقال كل خليل كنت آمله ..لا ألهينك إني عنك مشغول.. حتى دخل وقت صلاة الظهر فهزم الله جل وعلا الصليبين...فلما انتصرنا جمعت أصحابي وصلينا الظهر وبعد ذلك ذهب كل منا يبحث عن أهله وأصحابه..إلا الغلام فليس هنالك من يسأل عنه فذهبت أبحث عنه..فبينما أنا اتفقده وإذا بصوت يقول: أيها الناس ابعثوا إلي عمي أبا قُدامة ابعثوا إلي عمي أبا قدامة..

فالتفت إلى مصدر الصوت فإذا الجسد جسد الغلام ..وإذا الرماح قد تسابقت إليه ، والخيلُ قد وطئت عليه فمزقت اللحمان ، وأدمت اللسان وفرقت الأعضاء ، وكسرت العظام .. وإذا هو يتيم مُلقى في الصحراء .

قال أبو قدامة : فأقبلت إليه ، وانطرحت بين يديه ، وصرخت : ها أنا أبو قدامة .. ها أنا أبو قدامة ..

فقال : الحمد لله الذي أحياني إلى أن أوصي إليك ، فاسمع وصيتي.

قال أبو قدامة : فبكيت والله على محاسنه وجماله ، ورحمةً بأمه التي فجعت عام أول بأبيه وأخواله وتفجع
الآن به، أخذت طرف ثوبي أمسح الدم عن وجهه.

فقال : تمسح الدم عن وجهي بثوبك !! بل امسح الدم بثوبي لا بثوبك ، فثوبي أحق بالوسخ من ثوبك ..

قال أبو قدامة : فبكيت والله ولم أحر جواباً ..

فقال : يا عم ، أقسمت عليك إذا أنا مت أن ترجع إلى الرقة ، ثم تبشر أمي بأن الله قد تقبل هديتها إليه ، وأن ولدها قد قُتل في سبيل الله مقبلاً غير مدبر ، وأن الله إن كتبني في الشهداء فإني سأوصل سلامها إلى أبي وأخوالي في الجنة ، .. ثم قال : يا عم إني أخاف ألا تصدق أمي كلامك فخذ معك بعض ثيابي التي فيها الدم، فإن أمي إذا رأتها صدقت أني مقتول ، وقل لها إن الموعد الجنة إن شاء الله ..

يا عم : إنك إذا أتيت إلى بيتنا ستجد أختاً لي صغيرة عمرها تسع سنوات .. ما دخلتُ المنزل إلا استبشرتْ وفرحتْ ، ولا خرجتُ إلا بكتْ وحزنتْ ، وقد فجعت بمقتل أبي عام أول وتفجع بمقتلي اليوم ، وإنها قالت لي عندما رأت علي ثياب السفر : يا أخي لا تبطئ علينا وعجل الرجوع إلينا ، فإذا رأيتها فطيب صدرها بكلمات ..وقل لها يقول لك أخوكِ الله خليفتي عليكي..

ثم تحامل الغلام على نفسه وقال : يا عمّ صدقت الرؤيا ورب الكعبة ، والله إني لأرى المرضية الآن عند رأسي وأشم ريحها ..ثم انتفض وتصبب العرق وشهق شهقات ، ثم مات.

قال أبو قدامة : فأخذت بعض ثيابه فلما دفناه لم يكن عندي هم أعظم من أن أرجعَ إلى الرقة وأبلغَ رسالته لأمه ..

فرجعت إلى الرقة وأنا لا أدري ما اسم أمه وأين تسكن..فبينما أنا أمشي وقفت عند منزل تقف على بابه فتاة صغيرة ما يمر أحد من عند بابهم وعليه أثر السفر إلا سألته يا عمي من أين أتيت فيقول من الجهاد فتقول له معكم أخي؟..

فيقول ما أدري مَن أخوك ويمضي..وتكرر ذلك مرارًا مع المارة ويتكرر معها نفس الرد..فبكت أخيرًا وقالت: مالي أرى الناس يرجعون وأخي لا يرجع..

فلما رأيت حالها أقبلت عليها..فرأت علي أثر السفر فقالت يا عم من أين أتيت قلت من الجهاد فقالت معكم أخي فقلت أين هي أمك؟؟

قالت: في الداخل ودخلت تناديها..فلما أتت الأم وسمعت صوتي عرفتني وقالت: يا أبا قدامة أقبلت معزيًا أم مبشرًا؟؟

فقلت: كيف أكون معزيًا ومبشرًا؟

فقالت: إن كنت أقبلت تخبرني أن ولدي قُتل في سبيل الله مقبل غير مدبر فأنت تبشرني بأن الله قد قبل هديتي التي أعدتها من سبعة عشر عامًا. وإن كنت قد أقبلت كي تخبرني أن ابني رجع سالمًا معه الغنيمة فإنك تعزيني لأن الله لم يقبل هديتي إليه..

فقلت لها: بل أنا والله مبشر إن ولدك قد قتل مقبل غير مدبر..فقالت ما أظنك صادقًا وهي تنظر إلى الكيس ثم فتحت الكيس وإذ بالدماء تغطي الملابس فقلت لها أليست هذه ثيابه التي ألبستيه إياها بيدك؟

فقالت الله أكبر وفرحت.. أما الصغيرة شهقت ثم وقعت على الأرض ففزعت أمها ودخلت تحضر لها ماء تسكبها على وجهها.. أما أنا فجلست أقرأ القرآن عند رأسها..و والله مازالت تشهق وتنادي باسم أبيها وأخيها..وما غادرتها إلا ميتة..

فأخذتها أمها وأدخلتها وأغلقت الباب وسمعتُها تقول: اللهم إني قد قدمت زوجي وإخواني وولدي في سبيلك اللهم أسألك أن ترضى عني وتجمعني وإياهم في جنتك


الثلاثاء، 8 سبتمبر 2015

ماذا فعل العثمانيون لإنقاذ الأندلس؟

ماذا فعل العثمانيون لإنقاذ الأندلس؟ 

يتردد هذا السؤال كثيرا، يتردد كلما اقتربت ذكرى سقوط غرناطة وضياع 
الأندلس، يتردد كلما ذُكر الموريسكيون ومحنتهم وترحيلهم، يتردد حتى إذا تم التعرض لتاريخ العثمانيين وأمجادهم. يردده البعض مستنكرين لائمين ولسان حالهم يقول "لم يفعل العثمانيون شيئا"، ويردده البعض الآخر رافعين رؤوسهم إلى عنان السماء فخورين بما قام به العثمانيون على كافة الأصعدة .. على الصعيد السياسي عن طريق الرسائل المتبادلة مع باقي حكام العالم طالبين التيسير على المهاجرين المسلمين، على الصعيد الاجتماعي بدمج هؤلاء المهاجرين واستيعابهم في اسطنبول وباقي المدن التابعة للدولة العثمانية، وعلى الصعيد العسكري بتوفير الدعم غير المباشر عن طريق معارك بربروس في البحر المتوسط والتي أنهكت الأسبان، أو الدعم المباشر من حكام الجزائر ومنهم قلج علي بك عن طريق المشاركة في ثورة البشرات وإمداد الموريسكيين بالجنود والأسلحة ..

وبرغم منطقية السؤال وكثرة تردده على ألسنة المؤرخين وقارئي التاريخ ودارسيه بل حتى على ألسنة من لا يقرأ التاريخ، إلا أن هناك تساؤل يبدو أكثر منطقية إذا ما نحينا التحيزات المسبقة وابتعدنا عن قراءة التاريخ بأعين سياسية وركزنا جل اهتمامنا على تفحص تاريخ العالم بصفة عامة والمنطقة العربية بصفة خاصة بعين تريد رؤية الحقيقة وعقل متفتح 
جاهز لتقبل هذه الحقيقة أيا كانت .. يبقى التساؤل الأهم هو كيف للعثمانيين أن ينقذوا الأندلس؟ 

لو بدأنا بدراسة ملابسات فتح الأندلس لوضعنا أيدينا على بداية الخيط ، فجغرافيا الأندلس جعلتها خارج نطاف تفكير المسلمين لفترة طويلة وظل شمال افريقيا هو منتهى آمالهم بل حتى أن شمال افريقيا نفسه كان هدفا عسيرا بسبب سياسة الحكام الأمويين الأوائل، ولم يستطع المسلمون الوصول للأندلس إلا بعد تولي موسى بن نصير ولاية افريقيا 
وتغيير هذه السياسات والتأني في فتوحاته والاستعانة بالبربر الأمازيغ في 
هذه الفتوحات. لكن - وحتى بعد كل هذا - ظل موسى بن نصير حريصا في تقدمه للأندلس محذرا طارق بن زياد من التسرع ومؤنبا اياه أحيانا، مدفوعا بخوفه على جيوش المسلمين من عبور المتوسط والتيه في الجبال والوقوع في حصار بين بحر وعدو صليبي من الجهة الأخرى. هذه الجغرافيا جعلت الأندلس وحكامها محاصرين دوما ومهددين من الشمال بممالك نصرانية. كذلك كون الأندلس هي أول مملكة إسلامية تقام في أوروبا فقد جعلها هذا مصدر تهديد دائم للكاثوليكية والكنيسة في روما وجعل من البابا خصم وعدو للإسلام والمسلمين فكان دوما هو المحرك لأي حملة صليبية أو حرب ضد الأندلس على مدى ثمانية قرون كاملة ..

لو تركنا جغرافيا الأندلس وتأملنا تاريخها لوجدنا أنفسنا أمام ظاهرة 
متكررة مفادها أن الأندلس كانت على وشك السقوط عدة مرات لم تنج فيها إلا بمساعدة جيرانها المغاربة، حدث هذا في الزلاقة ثم لم يلبث أن جاء المرابطون ليعطوا الأندلس قبلة الحياة، تبعهم الموحدون (الأرك) وبنو مرين (الدونونية)، ولذا فقد كانت فرصة الأندلس الحقيقة في النجدة هي الوطاسيين ومن بعدهم السعديين، ولما كان كلاهما يتميز بالضعف وحب السلطة فقد صار عصيا على أي قوة إسلامية أخرى أن تتدخل وهي لا تملك قواعد بحرية قريبة من الأندلس تستخدمها لانطلاق حملاتها، خاصة إذا ما كان حكام المغرب في هذا الحين يرون في أنفسهم ندا لأي قوة إسلامية أخرى خاصة العثمانيين.

ومن تاريخ الأندلس إلى تاريخ المنطقة كلها، وبقليل من القراءة في المعارك 
والجولات السابقة بين المسلمين والصليبيين نرى بجلاء كيف فشلت معظم الحملات الصليبية على الشرق وكيف كان من الصعب على جيوش أوروبا أن تحارب في أرض تبعد عنها آلاف الكيلومترات وفي منطقة محاطة بأعدائهم من كل اتجاه. حتى أن الحملة الصليبية الوحيدة الناجحة (الحملة الأولى) لم تستطع الحفاظ على مكتسباتها كثيرا، وكيف لها ذلك والصليبيون يعيشون محاصرين بالمدن المسلمة من كل اتجاه!! 
فتح القسطنطينية يبدو أيضا مثال جيد يؤيد نفس النظرية، فهاهم المسلمون يحاولون المرة تلو الأخرى منذ عهد ذو النورين رضي الله عنه 
عام 35 هـ وحتى المحاولة الخامسة في عهد الخليفة العباسي المهدي عام 165 هـ، إلا أن كل هذه المحاولات باءت بالفشل ولم ينجح محمد الفاتح في ذلك إلا بعدما صار جارا لها، يستطيع بسهولة تأمينها بعد الفتح.
أما المثال الثالث والأخير فهو تونس والتي فقدها العثمانيون بعد أن فتحوها لنفس الأسباب السالف ذكرها.

من منظور آخر، تحمل فكرة الاستعانة بقوى خارجية لدعم ثورة فرصا أقل للنجاح مقارنة باستعانة حاكم وجيش بلد ما بحليف يدعمها ضد عدو خارجي، فعندما قامت ثورة البشرات كانت مقاليد الأمور كلها بيد القشتاليين بينما كان المسلمون مجرد مواطنين ثائرين يفتقدون أحيانا إلى التنظيم وأحيانا أخرى إلى الدعم المادي والمعنوي مما يقيد حركة الثوار ويضعفها ويجعلها تفتقد إلى المرونة، وهو ما يجعل من انتصار هذه الثورة بسواعد جنود غرباء ضربا من الخيال، بينما لو قارنا ذلك بمواقف أخرى تم الاستعانة فيها بقوى خارجية كموقف المعتمد ابن عباد لوجدنا بن عباد حينها حاكما وأميرا يملك أسلحة وجيشا ويدعمه شعبا كاملا دون خوف من إظهار هذا الدعم أو الحاجة إلى التخفي.

لو أضفنا لهذه الأسباب حقيقة أن الامبراطورية الأسبانية كانت في أوج مجدها وهو ما يتجاهله غالبية اللائمون مشددين فقط على قوة الدولة العثمانية ومتغاضين عن موقف القوى المسيحية الأخرى من إسبانيا (روما - البندقية - البرتغال) في مقابل موقف القوى الإسلامية من العثمانيين (المماليك - الحفصيين/السعديين - الصفويين)، فإن الصورة تصبح أكثر وضوحا ويصبح من الصعب إلقاء اللوم على العثمانيين لعدم قدرتهم إنقاذ الأندلس بل يصبح من العسير التفكير في العثمانيين كمنقذ بينما يتفرغ المماليك لدعم الصفويين ضد الدولة العثمانية أو على الأقل عدم اتخاذ موقف حاسم ضدهم، بل يصبح من الغبن أن ينتقد البعض العثمانيين ويخلع عنهم لقب الخلافة بينما يتجاهل تماما وجود خلافة عباسية (عربية كما يحلو للبعض) دورها الرئيسي هو حماية الإسلام والمسلمين في شتى بقاع الأرض.

لقد بذل العثمانيون جهودا لم يبذلها أقرانهم في مواقف مشابهة من قبل، فلم نر المماليك يقفون في وجه المد الشيعي بعد قيام الدولة الصفوية على يد اسماعيل الأول (1500)، ولا الموحدون الذين حكموا نصف افريقيا بل والأندلس نفسها هبوا لنجدة بغداد حين افترسها التتار وقضوا على الخلافة العباسية بل وعاش المسلمون دون خليفة ثلاث سنوات كاملة، لم نر الفاطميين يساندون صلاح الدين من أجل تحرير القدس، بل لم يبذل العثمانيون أنفسهم جهودا مماثلة حين سقطت دولة المغول الإسلامية في الهند .. ولولا ما بذله العثمانيون من جهود من أجل الإسلام لربما صارت تونس والجزائر ومصر ولايات أسبانية .. لولا ما بذله بنو عثمان لربما قُضي على أكثر من نصف مليون موريسكي ولما وصلوا إلى بلاد المغرب ، لولا سلاطين الدولة العلية لربما انتهت الخلافة العباسية في نفس العام (1517) لكن على يد البرتغاليين ولربما تمددت الدولة الصفوية لتبتلع العراق والشام وإرث السلاجقة ، لولاهم لما بُنيت المساجد في سراييفو ولا وصل الإسلام إلى بلجراد وشبه جزيرة القرم ...

لقد سقطت الأندلس لأن سنن الله في كونه نافذة ولأن الله لا يحابي أحدا، وقد كان مقدرا لها أن تسقط قبل هذا التاريخ بعدة قرون لكنها رحمة الله وعزيمة رجال سخرهم الله لرفعة الإسلام .. سقطت حين اختلف حكامها وتركوا دينهم يريدون زينة الحياة الدنيا بينما توحد أعداؤهم .. سقطت يوم أن فقدت القدرة على الاستمرار .. ماتت يوم أن فقدت الرغبة في الحياة ..

لقد سقطت الأندلس ولم يكن باستطاعة العثمانيين أو غيرهم أن يستأخرون أجلها ساعة ، فليصغ المؤرخون مسارات بديلة ويضعوا السيناريوهات المحتملة كلها .. سيدعمهم بايزيد ويترك سليم الأول حملة الشرق ويتوجه إلى المغرب لمناصرة أهل الاندلس .. سيتخلى سليمان القانوني عن حملات بلجراد ويستبدل ألمرية بموهاج .. سيكف سليم الثاني عن الزحف لقبرص ويوجه كل جيوشه إلى قلج علي باشا ثم ... يقضي الله أمرا كان مفعولا وتسقط الأندلس ..